فصل: سنة إحدى وأربعين وسبعمائة:

صباحاً 6 :58
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
18
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة إحدى وأربعين وسبعمائة:

في يوم الثلاثاء سابع المحرم: وصل الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام وهو متضعف، صحبة الأمير بيبرس السلاح دار، وأنزل من القلعة بمكان ضيق حرج. وقصد السلطان ضربه بالمقارع فقام الأمير قوصون في الشفاعة له حتى أجيب إلى ذلك وبعث إليه السلطان يهدده حتى يعترف بما له من المال، ويذكر من كان موافقاً على العصيان من الأمراء.
فأجاب تنكز بأنه لا مال له سوى ثلاثين ألف دينار وديعة عنده لأيتام بكتمر الساقي، وأنكر أن يكون خرج عن الطاعة. فأمر السلطان في الليل فأخرج مع ابن صابر المقدم وأمير جندار، وحمل في حراقة بالنيل إلى الإسكندرية، فقتله بها إبراهيم بن صابر المقدم، في يوم الثلاثاء خامس عشره.
وفي يوم الإثنين سادسه: قدم الأمير بشتاك والأمير ألطنبغا الصالحي إلى دمشق فيمن معهما من الأمراء وقد خرج الناس إلى لقائهم، فكان يوماً مشهوداً. ونزل الأمير ألطنبغا بدار السعادة، ونزل الأمير بشتاك بالميدان. ثم قبض على الأمير صاروجا المظفري ألجيبغا العادلي، وطلب من ألزام تنكز مملوكاه جنغيه وطغيه، وسلما للأمير برسبغا، فعاقبهما أشد عقوبة على المال، وقبض على أولادهما وحواشيهما، وأوقع الحوطة على موجوديهما وموجود صاروجا وألجيبغا، ثم وسط جنغيه وطغيه بسوق الخيل، وأكحل صاروجا.
وتتبعت أموال تنكز، فوجد له ما يجل وصفه، وعملت لبيع حواصلة عدة حلق، تولى البيع فيها الأمير ألطنبغا نائب الشام والأمير أرقطاي، وهما أعدى عدو له، وكان في ذلك عبرة لمن اعتبر.
وظهر له من التحف السنيه ما يعز وجود مثله. منها مائتا منديل زركش، ومائة حياصة مرصعة بالجوهر، وأربعمائة حياصة ذهب، وستمائة كلفتاه، وثمانية وستون بقجه بها بدلات ثياب زركش، وألفا ثوب أطلس ومائتا تخفيفة زركش وذهب مختوم أربعمائة ألف مثقال. واشتملت جملة ما أبيع له على مائتي ألف دينار، فكان جملة العين ستمائة ألف دينار وأربعمائة دينار.
ووجد له من الهجن والخيل والجمال البخاتي وغيرها نحو أربعة ألاف ومائتي رأس وذلك سوى ما أخذه الأمراء ومماليكهم، فإنهم كانوا ينهبون ما يخرج به نهباً. ووجد له من الثياب الصوف ومن النصافي ما لا ينحصر، وظفر الأمير بشتاك بجوهر له ثمين اختص به. وحملت حرمه وأولاده إلى مصر صحبة الأمير بيغرا، بعدما أخذ. لهم من الجوهر واللؤلؤ والزركش شيء كثير.
ووجد لألجيبغا العادلي مبلغ مائة وعشرين ألف درهم، وألف ومائتي دينار وأصناف كثيرة، فبلغت تركته ستمائة ألف درهم. ولم يؤخذ لصاروجا غير أربعين ألف درهم، وصودر جماعه من ألزام تنكز فأخذ منهم نحو الألفي ألف درهم.
ثم توجه الأمير بشتاك من دمشق، وقدم قلعه الجبل، فخلع عليه وأكرم إكراماً زائداً.
ثم قدم الأمير قطلوبغا الفخري باستدعاء، فخلع عليه، وأنعم عليه بتقدمة ألف، ثم قدم الأمير طشتمر حمص أخضر نائب صفد، فخلع عليه بنيابة حلب، عوضاً عن طرغاي الجاشنكير.
وخلع على الأمير مسعود بن خطير الحاجب بنيابة غزة، وأنعم على برسبغا بتقدمته وحجوبيته، وكتب بحضور طرغاي من حلب.
وفيها استقر الأمير أرقطاي في نيابة طرابلس عوضاً عن طينال، وأقام طينال بدمشق.
وفيها استقر الأمير أقسنقر السلاري في نيابة صفد، عوضاً عن الأمير طشتمر. ولما قدم حريم تنكز أنزلوا في داره بخط الكافوري، وكان قد أخرج جمال الكفاة ناظر الخاص منها حواصل جليلة، ما بين أواني صيني ومسك وعود وغير ذلك، أقام في بيعه مدة أربعة أشهر، وبلغت قيمتها نحو ثمانين ألف درهم وألفي دينار، سوى ما أنعم به على الأمراء.
ووجد لتنكز بقلعة جعبر مبلغ ثلاثين ألف دينار، وثلاثين حمل سلاح، ووجد له حاصل سروج ولجم وسلاسل ذهب وفضة وعدة سلاح بما ينيف على مائة ألف دينار، وقومت أملاكه بما ينيف على مائة ألف دينار.
وكان لتغير السلطان على تنكز أسباب: منها أنه كتب يستأذن في سيره إلى ناحية جعبر، فمنعه السلطان من ذلك، لما في تلك البلاد من الغلاء، وألح تنكز في الطلب والجواب يرد بمنعه حتى حنق من السلطان وقال: والله لقد تغير عقل أستاذنا، وصار يسمع من الصبيان الذين حوله ووالله لو سمع مني لكنت أشير عليه بأن يقيم أحد أولاده، وأقوم أنا بتدبير أمره، ويبقى هو مستريحاً. فكتب بذلك جركتمر للسلطان، وكان يتخيل بدون هذا، فأسر في نفسه منه شيئاً.
واتفق أن أرتنا نائب الروم بعث رسولاً إلى السلطان بكتابه، ولم يكتب معه كتاباً إلى تنكز، فخنق تنكز لعدم مكاتبته، ورد رسوله من دمشق.
فكتب أرتنا يعرف السلطان بذلك، ويسال ألا يطلع تنكر على ما بينه وبين السلطان، ورماه بأمور أوجبت شدة تغيره عليه، واتفق أيضاً أن غضب تنكز على جماعة من مماليكه، وضربهم وسجنهم بالكرك والشوبك فكتب منهم جوبان وكان أكبر مماليكه الأمير قوصون يشفع به في الإفراج عنه من سجن الشوبك. فكلم قوصون السلطان في ذلك فكتب إلى تنكز يشفع في جوبان فلم يجب عن أمره بشيء، فكتب إليه ثانياً وثالثاً، فلم يجب، فاشتد غضب السلطان حتى قال للأمراء: ما تقولون في هذا الرجل؟ هو شفع عندي في قاتل أخي فقبلت شفاعته، وأخرجته من السجن وسيرته إليه يعني طشتمر آخا بتخاص وأنا أشفع في مملوكه ما يقبل شفاعي وكتب لنائب الشوبك بالإفراج عن جوبان فأفرج عنه.
وكان تنكز رحمه الله في نيابة دمشق قد أزال المظالم، وأقام منار الشرع وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأزال ما كان بدمشق وأعمالها من الفواحش والخانات والخمارات، وبالغ في العقوبة على ذلك حتى قتل فيه. وأنصف العامة والتجار بخلاص حقوقهم من الأمراء، وحملهم مع أخصامهم إلى الشرع. واحتجب عن الاجتماع بالشاميين وغيرهم، وامتنع من قبول التقادم والهدايا جملة. وتتبع المدارس والمساجد والأوقاف فعمرها جميعها، ومنع مستحقيها من تناول ريعها حتى كملت عمارتها. وحدد عدة أماكن قد دثرت أوقافها، وأعاد فيها وظائف العبادات بعدما بطلت وجدد عمارة الجامع الأموي، وعمر أوقافه، وأصلح تقاسيم المياه بعد ما كانت فاسدة ونظف مجاريها ووضح طرقها، وهدم الأملاك التي استجدها الناس وضيقوا بها الشوارع والطرقات المسلوكة. وألزم والي المدينة أن يعلمه. ممن يشرب الخمر من الأمراء وأولادهم، فتعذر وجود الخمر في أيامه، ولم يكن يوجد. واستجد ديواناً للزكاة، وصرفها للفقراء والمساكين وأرباب البيوت. وانكفت الولاة في أيامه عن الظلم، وأحبته العامة ومنع الأمراء من تسخير الفلاحين والمزارعين في أعمالهم، ومنعهم أيضاً من الاجتماع في الفرج والمتنزهات وغيرها، فصاروا إذا وكبوا في المواكب لا يقدر أحد منهم يكلم رفيقه وإذا صاروا إلى بيوتهم لا يستطيع الواحد أن يجتمع بالآخر، وإذا اخرج تنكز إلى سفر لا يتأخر منهم أحد، سواء قال له: أخرج أو لم يقل له. ومنع أكابر الأمراء أن تترجل له أو تمشي في خدمته، فأقام الله له من الحرمة ما لا حصل لأحد من نواب الدولة التركية وكتب لنواب البلاد الشامية ألا يكاتبوا السلطان إلا ويكاتبوه، وأن ترد مكاتباتهم للسطان عليه بغير ختم ليقف عليها، فإن أرضته بعث بها إلى السلطان وإلا ردها. وأضيف إليه أمر صفد وغزة وكان مغرماً بالصيد، بحيث يركب له في السنة ثلاث مرات، أخرها تعدية الفرات في الشتاء، فإذا ضرب الحلقة لشتمل على ثلاثمائة غزال ونيف، وعلى مائتي رأس من بقر ونعام، وغير ذلك.
وعمر قلعة جعبر بعد خرابها من عهد غازان، وشحنها بالرجال والسلاح والغلال وعدى الفرات مراراً، فاتفق أنه عدى مرة، فحمل إليه الشيخ حسن الكبير وابن سونتاي الهدايا الجليلة، وخافه أهل بغداد والموصل، فجلا كثير منهم، وخافته الأكراد والتركمان والعربان بأجعهم.
وكانت أولاد دمرداش في أعمال توريز، ماذا بلغهم مسيره رحلوا خوفاً منه، حتى يبلغهم عوده إلى دمشق.
فلما كانت أخر أيامه صادر جماعة كثيرة من كتاب السر وغيرهم، ومن الضمان والعرفاء. واتخذ الأملاك، وأخذ عدة أوقاف من أولاد الملوك، حتى كانت غلة أملاكه كل سنة مائة ألف درهم. وسخر الفلاحين، وقطع الزكاة. وأخرق بكثير من الأمراء، وأخرج منهم جماعة عن دمشق، وبالغ في العقوبة، وساء خلقه كثيراً. وكانت مدة نيابته ثمانياً وعشرين سنة وأشهراً.
وفيه طلب شهاب الدين أحمد بن فضل الله، وخلع عليه بكتابة السر بدمشق، بعدما خلفه السلطان عوضاً عن شهاب الدين يحيى بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن خالد بن محمد بن نصر بن القيسراني. فقدم ابن فضل الله إلى دمشق، وقد كاد الأمير برسبغا الحاجب أن يقطع يد ابن القيسراني بمرسوم السلطان، بعدما صادره، فقام في ذلك ابن فضل الله حتى أفرج عنه.
وفيه طلب أيضاً شمس الدين موسى بن التاج إسحاق، وخلع عليه، واستقر في نظر الجيش بدشق، عوضاً عن فخر الدين محمد بن الحلي بعد موته.
وأخرجت له بغلة النشو التي كان يركبها، وجهز من الخزانة حتى سافر، فباشر الجيش بعفة زائدة، وأبطل ما كان يستهديه من قبله.
وفيه قبض على الأمير مكين الدين إبراهيم بن قروينة ناظر الجيش، وسلم للأمير برسبغا الحاجب، وطلب جمال الكفاة ناظر الخاص، وخلع عليه لنظر الجيش مع نظر الخاص، ولم يجمعهما أحد قبله، ثم أفرج عن ابن قروينة بعدما حمل مائة وثلاثين ألف درهم، بشفاعة الأمير بشناك.
وفيه قبض على الصاحب أمين الدين أبي سعيد عبدالله بن تاج الرياسة بن الغنام وسلم إلى الأمير برسبغا، ورسم له بعقوبته من أجل أنه اتهم بأنه كان من جهة تنكز فعاقبه برسبغا، وعاقب ولده تاج الدين أحمد ناظر الدولة، وأخاه كريم الدين أبا شاكر مستوفي الصحبة، وأخذ أموالهم، ثم خنق أمين الدين.
وفي يوم الجمعة حادي عشرى ربيع الآخر: مات الأمير آنوك ابن السلطان بعد مرض طويل، فدفن بالتربة الناصرية بين القصرين، وكان يوماً مهولاً، نزل في جنازته جميع الأمراء. وباعت أمه ثيابه وتصدقت بها على الفقراء، ورتبت القراء على قبره بجار لهم في كل شهر من وقف وقفته على قبره، وأقامت سنة تعمل في كل ليلة جمعة على قبر مجتمعاً يحضره القراء لقراءة ختمة كريمة، وتمد لهم الأسمطة الجليلة.
وفيه أنعم على الأمير قطلوبغا بإقطاع آنوك.
وفي هذه السنة: كثر وقوع الحريق بالنواحي في أجران الغلال بنواحي قليوب وسنديون وبلاد الغربية والبحيرة ولم يعلم من أين هو. ثم وقع بالقاهرة في أماكن منها ربع طقزدمر بدار التفاح، فاستعد الناس لذلك.
وفي أخريات جمادى الآخرة: هبت ريح شديدة من بحر الإسكندرية، فاقتلعت نخلاً كثيراً، وهدمت دوراً عديدة، ثم أعقبها مطر غزير هلك به أغنام كثيرة وعظم اضطراب النيل حتى غرق فيه أحد وعشرون مركباً، وصار يقذف المركب إلى البر حتى يبعده نحو عشر قصبات عن الماء. وكل ذلك جميع أراضي مصر قبليها وبحريها وأرض برقة.
وفيه نقل الأمير عز الدين أزدمر الكاشف من كشف الوجه البحري إلى كشف الوجه القبلي، وفيه نقل علاء الدين علي بن الكوراني إلى ولاية الغربية.
وفيه ركب السلطان إلى جهة بركة الحبش، وصحبته عدة من المهندسين، وأمر أن يحفر خليج من البحر إلى حائط الرصد، ويحفر في وسط الشرق المعروف بالرصد عشرة أبار عمق كل بئر نحو أربعين ذراعاً يركب عليها السواقي حتى يجري الماء من النيل إلى القناطر التي تحمل الماء إلى القلعة، ليكثر بها الماء.
وأقام السلطان الأمير آقبغا عبد الواحد على هذا العمل فشق الخليج من بحري رباط الآثار، ومروا به وسط بستان الصاحب تاج الدين بن حنا المعروف بالمعشوق، وهدمت عدة بيوت كانت هناك، وجعل عمق الخليج أربع قصبات. وجمعت عدة من الحجارين للعمل فكان مهماً عظيماً.
وفيه قدم الشيخ أحمد بن موسى الزرعي، فركب الأمراء والقضاة للسلام عليه. ثم عاد الشيخ إلى الشام بعد أيام، ولم يجتمع بالسلطان.
وفيه تغير السلطان على ولده أحمد بسبب بينات عنده، وأخرجه منفياً إلى صرخد وباع خيله. فلم يزل به الأمراء حتى أمر برده، فرجع من سرياقوس.
وفيه كتب السلطان بطلب ابنه أبي بكر من الكرك، فقدم ومعه هدية بمائة ألف درهم، فتوجه الأمير طيبغا المجدي إلى الكرك، وأحضر طلب أبي بكر ومماليكه وخواصل الكرك كلها.
وفيه خلع على الأمير ملكتمر السرجواني، واستقر في نيابة الكرك، وتوجه إليها ومعه أحمد ابن السلطان، وأوصاه السلطان ألا يدع لأحمد حديثاً ولا حكماً بين اثنين. وفيه قدم البريد بأن الغلاء شديد ببلاد المشرق، وأنه ورد من أهله عالم عظيم إلى شط الفرات وبلاد حلب، فكتب إلى نائب حلب بتمكينهم من العبور إلى حيث شاءوا من البلاد وأوصاه السلطان بهم، فملأوا بلاد حلب وغيرها.
وقدم منهم إلى القاهرة صحبة قاصد نائب حلب نحو المائتي نفر، فاختار السلطان منهم طائفة نحو ثمانين شخصاً، جعل بعضهم في الطباق، وأسكن منهم عدة القلعة، وأمر منهم جماعة وفرق في الأمراء منهم جماعة.
وفيها جدد السلطان جامع راشدة، وقد تهدم أكثر جدرانه.
وفيها ابتاع الأمير قوصون من الأمير مسعود بن خطير قصر الزمرد بخط رحبة باب العيد من القاهرة، وكان سعته نحو عشر فدادين، وشرع قوصون في عمارته سبع قاعات، لكل قاعة إصطبل. وفيها قدم الخبر بخروج ابن دلغادر عن الطاعة.
وفيها استقر ركن الدين بيبرس السلاح دار أحد أمراء الألوف بدمشق في نيابة أياس، عوضاً عن مغلطاي الغزي بعد موته.
وفيها شنعت القالة بسوء سيرة الطائفة الأقباعية بخانكاه بيبرس، فرسم السلطان بنفيهم ونفي شيخهم، فأخرجوا منها بأجمعهم. واستقر في المشيخة بها الشيخ شيرين. وفيه خرج الأمير بشتاك إلى البلاد الشامية ليتصيد، وقد كتب إلى النواب بملاقاته وتعبية الإقامات له.
وفيها توجه بكلمش المارديني على البريد بهدية لصاحب ماردين فيها عشر ألاف دينار، وعشرة رءوس من الخيل ومائتا قطعة قماش، وأربعة فهود.
وفيها قدم الخبر باختلال حال البريد، من كثرة ركوب التجار والعرب البريد، فرسم ألا يركب البريد إلا من يأذن له السلطان في ركوبه، ويكون معه ورقة بتمكينه من ذلك، وأن يفتش بقطيا كل من ورد، فمن وجد معه ورقة وكتب لغير السلطان أخذت منه وحملت إلى السلطان.
وفيها ركب أمير أحمد الساقي قريب السلطان البريد إلى بلاد الشرق لمهمات سلطانية: منها طلب رهائن طغاي سونتاي والشيخ حسن بك الكبير، وكانا قد سألا أن يجهز السلطان عسكراً ليسلماه بلاد الشرق، فأجيبا إلى ذلك على أن يبعثا بأولادهما رهناً على العسكر، فجهز ابن سونتاي ولده برهشين، وجهز الشيخ حسن ابن أخيه ابراهيم شاه إلى حلب.
وفيه استقر الأمير بهاء الدين أصلم في نيابة صفد، عوضاً عن أقسنقر السلاري، ونقل آقسنقر إلى نيابة غزة، عوضاً عن أمير مسعود بن خطير، ونقل أمير مسعود إلى دمشق، وأنعم عليه بإقطاع بيبرس السلاح دار المستقر في نيابة أياس.
وفيه أنعم على الأمير أبي بكر ابن السلطان بإقطاع الأمير أصلم، ورسم للأمير بشتاك أن يتولى أمره، فاستخدم له الوافدية من حلب وغيرهم، حتى أكمل عدته. وعمل السلطان الأمير ألطنقش مملوك الأفرم أستاداره، وزوجه بابنة الأمير ملكتمر الساقي التي كانت تحت أخيه آنوك، وبنى عليها.
وفيه رسم بطلب أجناد الحلقة من الأعمال، فلما تكامل حضورهم تقدم السلطان إلى الأمير برسبغا بعرضهم، فكتبت أوراق بعبرة كل خبز. ثم جلس السلطان بالإيوان، وعرض عليه جماعة كبيرة من المشايخ ومن المحارفين، فقطع الجميع وكتب بإقطاعاتهم مثالات المماليك السلطانية أرباب الجوامك. وعرض برسبغا بقية الأجناد بالقلعة وفتش عن ثيابهم التي هي عليهم، وقد كتبت أوراق بأرباب المرتبات الذين على مدينة بلبيس وبساتينها وحوانيتها، وأوراق بمتحصل المعادي ببولاق، وأوراق بجهات النطرون، وأوراق بأسماء الأجناد المقطعين على الحكورة. فرسم السلطان أن يوفر الجميع، وأن يؤخذ من الجند المقطعة على الحكر أخبارهم، وينعم بها على الأمير ألطنبغا المارديني، ليكون وقفاً على جامعه خارج باب زويلة، وعلى الأمير بشتاك ليكون وقفاً على جامعه المطل على بركة الفيل.
فلما تم عرض الأجناد قطع السلطان منهم الزمنى والعميان والضعفاء وأرباب العاهات، وفرق إقطاعاتهم على المماليك السلطانية، وأخرج بعضها للوافدية الذين يفدون من البلاد، فكانت مدة العرض شهرين، أولها مستهل رمضان وأخرها سلخ شوال.
وكتب إلى الأعمال بحمل ما توفر عن الأجناد من الإقطاعات لبيت المال.
وفيه كتبت أوراق بأسماء المجردين إلى بلاد الشرق: وهم الأمير برسبغا الحاجب والأمير كوكاي السلاح دار، والأمير طوغاي الجاشنكير، والأمير قماري أمير شكار، ومعهم جماعة كثيرة، ورسم أن يكون خرجهم إلى توريز في نصف ذي الحجة. فاشتد ذلك على الناس، وكثر الدعاء على السلطان بسبب قطع أرزاق الجند.
وفيه كتب بتجهيز عساكر دمشق وحلب وغيرهما للتجريدة إلى توريز، صحبة الأمير طشتمر نائب حلب، ويكون معه عامة أمراء التركمان والعربان.
فتجهز الأمراء والأجناد بمماليك الشام، وبرز نائب حلب بمخيمه إلى ظاهر المدينة وأقام ينتظر قدوم عساكر مصر. فأصبح السلطان في مستهل ذي الحجة وبه وعك من قرف حدث عنه إسهال لزم منه الفراش خمسة أيام، فتصدق بمال جزيل، وأفرج عن المسجونين بسجن القضاة والولاة بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال.
وفي يوم الأربعاء سادسه: قدم برهشين بن طغاي بن سونتاي وإبراهيم شاه ابن أخي الشيخ حسن الكبير، في مائتي فارس، فأنزلوا بالميدان، وأجريت لهم الرواتب السنية.
ثم أحضروا بين يدي السلطان في يوم الجمعة ثامنه وفيهم قاضي بغداد وقاضي الموصل وقاضي ديار بكر، فقدموا كتاب طغاي وكتاب الشيخ حسن الكبير، ونسخة أيمانهما وأيمان عامة أهل بلادهم من الأمراء والأجناد وأرباب المعايش بطاعة السلطان، وأنهم من جنده ومقاتلة من عاداه، وقدموا الخطبة التي خطب بها للسلطان في بغداد والموصل وديار بكر.
فقرئ ذلك كله على السلطان، فعرفهم السلطان أنه رسم بتجهيز العسكر إليهم، وبعد عشرة أيام يستقل بالسفر نحو بلادهم ثم خلع السلطان على الجميع، ورسم لنقيب الجيش باستعجال الأمراء والأجناد في الحركة للسفر، فشرعوا في تجهيز أمرهم. وكانت الأحوال متوقفة لقلة وجود الدراهم ورد الباعة من التجار والمتعيشين الذهب لغلو صرفه، فشق ذلك على الناس مشقه زائدة.
وفيه قوي الإسهال بالسلطان، ومنع الأمراء من الدخول إليه، فكانوا إذا طلعوا إلى الخدمة خرج لهم السلام من أمير جندار عن السلطان فانصرفوا.
وكثر الكلام إلى يوم الإثنين ثاني عشر، فخف عن السلطان الإسهال فجلس للخدمة وطلع للأمراء، ووجهه متغير.
فلما انقضت الخدمة نودي بزينة القاهرة ومصر، وجمعت أرباب الملاهي بالقلعه وجمع الخبز الذي بالأسواق، وعمل ألف قميص، وتصدق السلطان بذلك مع جملة مال.
وقام الأمراء بعمل الولائم والأفراح سروراً بعافية السلطان، وعمل الأمير ملكتمر الحجازي نفطاً كثيراً في سوق الخيل تحت القلعة، والسلطان قاعد لنظره، فاجتمع الناس من كل جهة لرويته.
وقدمت عربان الشرقية بخيولها وقبابها المحمولة على الجمال، ولعبوا بالرماح تحت القلعة. وخرجت الركابة والكلابزية وطائفة العتالين والحجارين إلى سوق الخيل للعب، ثم داروا على بيوت الأمراء وأخذوا الخلع هم والطبلكية فحصل لهم شيء كثير جداً، بحيث جاء نصيب مهتار الطبلخاناه ما قيمته ثمانون ألف درهم، وحصل لأرباب الملاهي مالا ينحصر.
وفيه رسم بعرض الجند المجردين في غد، فطلعوا إلى القلعة. وبينا هم في انتظار العرض إذ قدم إدريس القاصد صحبة مملوك صاحب ماردين بكتابه يتضمن أن أولاد دمرداش لما بلغهم طلب الشيخ حسن الكبير وطغاي بن سونتاي من السلطان أن يجهز لهم عسكراً ليأخذ البلاد، وأنهما حلفاً له وحلفاً أهل البلاد وخطباً باسمه على منابر بغداد والموصل، ركبوا إلى محاربتهما، فطلب منهم الشيخ حسن الكبير الصلح، وحلف لهم وسار إليها طائعاً، فأكرموه وكتبوا لطغاي بن سونتاي أماناً، واتفقوا على أن يعدوا الفرات إلى الشام.
وأشار صاحب ماردين ألا تخرج التجريدة إلى توريز، فإنه ليس لسيرها فائدة. فتفرقت الأجناد من القلعة بغير عرض، وبعث السلطان من ليلته بجواب صاحب ماردين، واقتضى رأيه أن يكشف عما ذكره، فإن برهشين بن طغاي اتهمه في ذلك.
فالما كان نصف ليلة: العيد هبت ريح عاصفة ألقت الزينة، ثم أمطرت مطراً عظيماً أتلف كثيراً من الزينة.
وكانت عامة ببلاد الشرقية والغربية والمنوفية، ونزل بتلك الأعمال برد كبار قتل من الغنم والدجاج كثيراً، وتلفت غلال كثيرة كانت بالأجران، فإنه كان في شهر بشنس.
وأصبح يوم الأحد: يوم العيد، وقد اجتمع الأمر لخروج السلطان إلى صلاة العيد، وقد قوي به الإسهال وأجمع رأيه على ألا يشهد صلاة العيد، فمازال به الأمير قوصون والأمير بشتاك حتى ركب ونزل إلى الميدان. وأمر السلطان قاضي القضاة عز الدين عز الدين عبد العزيز بن جماعة أن يوجز في خطته، مما هو إلا أن صلى السلطان وجلس لسماع الخطبة تحرك باطنه، فقام وركب إلى الفصر، وأقام يومه. ثم قدم البريد من حلب بصحة الخبر بصلح الشيخ حسن الكبير وطغاي مع أولاد دمرداش، فانزعج السلطان لذلك انزعاجاً شديداً، واضطرب مزاجه، فحدث له إسهال دموي.
وأصبح يوم الإثنين: وقد منع الناس من الاجتماع به ثم أشاع الأمير قوصون والأمير بشتاك أن السلطان قد أعفى الأجناد من التجريدة إلى توريز، ونودي بذلك في يوم الخميس رابع عشره، ففرح الناس فرحاً زائداً، إلا أنه انتشر بين الناس أن السلطان انتكس، فساءهم ذلك. وأخذ الأمراء في إنزال حرمهم وأموالهم من القلعة حيث سكنهم إلى القاهرة، فارتجت المدينة وماجت بأهلها.
واستعد الأمراء لاسيما قوصون وبشتاك، فإن كلاً منهم أحترز من الآخر وجمع عليه أصحابه، وأكثروا من شراء الأزيار والدنان وملأوها ماء، وأخرجوا القرب والروايا والأحواض، وحملوا إليهم البشماط والرقاق والدقيق والقمح والشعير، خوفاً من وقوع الحرب ومحاصرة القلعة. فكان يوماً مهولاً، ركب فيه الأوجاقية وهجموا الطواحين لأخذ الدقيق، ونهبوا الحوانيت التي تحت القلعة وسوق صليبة جامع ابن طولون. فارتفع سعر الأردب القمح من خمسة عشر درهماً إلى ثلاثين درهماً، وغلق التجار وأرباب المعايش حوانيتهم خوفاً من وقوع الفتنة.
هذا وقد تنكر ما بين قوصون وبشتاك، واختلفا حتى كادا يقتتلان. وبلغ ذلك السلطان فزاده مرضاً على مرضه، وكثر تأوهه وتقلبه من جنب إلى أخر، وتهوس بذكر قوصون وبشتاك نهاره. ثم استدعى السلطان بهما، فتنافسا بين يديه في الكلام فأغمي عليه، وقاما من عنده على ما هما عليه.
فاجتمع في يوم الإثنين ثامن عشره الأمير جنكلي والأمير آل ملك والجاولي والأحمدي وأكابر الأمراء للمشورة فيما يدبرونه، حتى اجتمعوا على أن بعث كل منهم مملوكا إلى قوصون وبشتاك ليأخذا لهم الإذن على العبور على السلطان، فأخذوا لهم الإذن. فلما أخذ الأمراء مجالسهم قال الأمير الجاولي وآل ملك للسلطان كلاماً حاصله أن يعهد أن أحد أولاده، فأحاب إلى ذلك، وطلب ولده أبا بكر، وطلب قوصون وبشتاك، وأصلح بينهما. ثم جعل السلطان ابنه أبا بكر سلطانا بعده، وأوصاه بالأمراء، وأوصي الأمراء به، وعهد إليهم ألا يخرجوا ابنه أحمد من الكرك وحذرهم من إقامته سلطاناً، وجعل قوصون وبشتاك وصييه، وإليهما تدبير ابنه أبي بكر وحلفهما.
ثم حلف السلطان الأمراء والخاصكية، وأكد على ولده في الوصية بالأمراء، وأفرج عن الأمراء المسجونين بالشام، وهم طيبغا حاجي وألجيبغا العادلى وصاروجا، ثم قام الأمراء. فبات السلطان ليلة الثلاثاء، وأصبح وقد تخلت عنه قوته، وأخذ في النزع يوم الأربعاء، فاشتد عليه كرب الموت حتى مات أول ليلة الخميس حادى عشريه، وله من العمر سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهراً وخمسة أيام. وأمه أشلون بنت سكناي بن قراجين بن جيغان، وقدم سكناي هو وأخوه قرمشي بن قراجين في سنة خمس وسبعين وستمائة، صحبة سنجر الرومي في أيام الظاهر بيبرس، فتزوج الأمير قلاوون بابنة سكناي، في سنة ثمانين وستمائة بعد موت أبيها. زوجه إياها عمها قرمشى، فولدت الناصر محمدا على فراش الملك المنصور قلاوون في الساعة السابعة من يوم السبت سادس عشر المحرم سنة أربع وثمانين وستمائة. وأقيم الناصر في السلطنة بعد أخيه الملك الأشرف خليل سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وعمره تسع سنين ثم خلع في سادس عشر المحرم سنة أربع وتسعين، وجري له ما تقدم ذكره إلى أن حضر من الكرك، وأعيد إلى الملك ثانيا. فأقام في الملك إلى سنة ثمان وسبعمائة، وخرج يريد الحج، فتوحه إلى الكرك غيظاً من حجر سلار وبيبرس عليه. فقام بيبرس في السلطة ثم اضطربت أموره، وقدم الناصر من الشام إلى مصر، فملك مرة ثالثة في شوال سنة تسع وسبعمائة واستبد الناصر من حينئذ بالأمر من غير معارض مدة اثنتين وثلانين سنة وشهرين وخمسة وعشرين يوماً، كانت له فيها سير وأنباء كما تقدم. وكان الناصر أطول ملوك زمانه عمراً وأعظمهم مهابة: فإنه أول ما بدأ به بعد قدومه من الكرك القبض على الأمراء البرجية وغيرهم في يوم واحد، وعدتهم زيادة على ثلاثين أميراً.
وأوقع مهابته في القلوب بالقتل وأخذ الأموال، فمنهم من قتله جوعاً وعطشاً، ومنهم من أتلفه بالخنق، ومنهم من غرقه، ومنهم من نفاه، ومنهم من سجنه فأقام مسجوناً العشرين سنة فما دونها. وأكثر الناصر من جلب المماليك والجواري، وطلب التجار إليه وبذل لهم المال، ووصف لهم حلي المماليك والجواري وسيرهم إلى بلاد أزبك وتوريز والروم وبغداد وغير ذلك من البلاد. فكان التاجر إذا أتاه بالجلبة من المماليك بذل له فيها أغلى القيم، وأنعم على تلك المماليك في يومهم بالملابس الفاخرة والحوائص الذهب والخيول والعطايا حتى يدهشهم. ولم تكن هذه عادة من تقدمة من الملوك، فإنهم كانوا إذا قدم لهم المملوك عرفوا جنسه، ثم أسلموه إلى الطواشي المقدم فيضيفه إلى جنسه من المماليك، ويرتبه عند الفقيه فيربيه بالآداب والحشمة والحرمة، ويمرنه في الرمي بالنشاب واللعب بالرمح وركوب الخيل وأنواع الفروسية، وتكون كسوته من الثياب القطن البعلبكي، ومن الثياب الكتان الخام المتوسط. ثم يدرج المملوك في الجامكية من ثلاثة دنانير إلى خمسة إلى سبعة إلى عشرة دنانير، فإذا التحق بالرحال أقيم ذلك الوقت في وظيفة من الوظالف اللائقة به، فيقوم بها على ما ينبغي من الأدب الذي تأدب به في صغره، ثم يترقى المملوك، فإذا وصل إلى منزلة كبيرة ورتبة عالية عرف مقدارها، وما كان فيه من الشقاء وما صار إليه من النعيم فأعرض الملك الناصر عن هذا وكان يسفه رأي الملوك فيه، ويقول إذا عرض له بشيء من ذلك وبقي يبلغ المملوك قصده من أستاذه أو أستاذه منه إذا فعل معه هذا، بل إذا رأي المملوك سعادة تملأ عينه وقلبه نسي بلاده، ورغب في أستاذه.
فأكثر التجار من جلب الممالليك إليه، فطار في البلاد فعل السلطان معهم، فأعطى المغل أولادهم وبناتهم وأقاربهم للتجار، وباعوهم منهم رغبة في سعادة مصر، فبلغ ممن المملوك على التاجر ما بين عشرين ألف درهم إلى ثلالين ألف درهم إلى أربعين ألف درهم، ففسد بذلك حال المغل فيما بينهم وقدموا إلى مصر. فكان السلطان يدفع في المملوك للتاجر المائة ألف درهم فما دونها، واقتدي به الأمراء في ذلك، حتى إن بعض أمرائه كان له مملوك حظي كان له في كل يوم ثمانون عليقة وكان لأمير أخر مملوك حظي له في كل يوم أربعون عليقة. وكان في الأمراء من يبلغ خاصة في كل سنة زيادة على مائتي ألف دينار، مثل بكتمر وقوصون وبشتاك، ومن عداهم يزيد خاصه على مائة ألف دينار في السنة، ومنهم من ينقص عن دلك.
وشغف السلطان الناصر أيضاً بالخيل، فجلبت له من البلاد، لاسيما خيول العرب آل منها وآل فضل، فإنه كان يقدمها على غيرها، ولهذا كان السلطان يكرم العرب ويبذل لهم الرغائب في خيولهم، ويتغالى في أثمانها.
وكان إذا سمع العربان بفرس عند بدوي أخدوها منه بأغلى القيم، وأخذوا من السلطان مثلى ما دفعوه فيها. وكان له في كل طائفة من طوائف العرب عين يدله على من عنده منهم الفرس السابق أو الأصيل حتى يأخذها بأكثر مما في نفس صاحبها من الثمن. فتمكنت منه بذلك العربان، ونالوا المنزلة العلية، وحظوا بأنواع السعادات في أيامه. وكان يكره خيول برقة فلا يأخذ منها إلا ما بلغ الغاية في الجودة، وما عدا ذلك منها إذا حملت إليه فرقه بخلاف خيول العرب آل مهنا وآل فضل، فإنه كان لا يسمح بها إلا للخاصكية.
وكانت له معرفة بالخيل وأنسابها وذكر من أحضرها ومبلغ ثمنها، بحيث يفوق فيها من عداه. وكان إذا استدعى بفرس يقول لأمير أخور: هات الفرس الفلانية التي أحضرها فلان واشتريناها بكذا وكذا. ولما اشتهرت رغبته فيها بين العرب جلبت له من بلاد العراق ومن البحرين والحسا والقطيف وبلاد الحجاز، وتقرب بها إليه عامة طوائف العرب، وجلبوها له. وكان إذا جاءه شيء منها عرضه، ودفع في الفرس العشرة آلاف والعشرين ألف والثلاثين آلف درهم، سوى الإنعام على مالكها، وكان صاحب الفرس إذا اشتد عليه زاده حتى يرضيه، فإذا أخذ ثمن فرسه وأراد السفر إلى بلاده أنعم عليه بتفاصيل ثياب تصلح له ولعياله، سوى السكر ونحوه. وطالما وزن كريم الدين الكبير في أثمان خيول العربان التي جلبت للسلطان دفعة واحدة مبلغ ألف ألف درهم، ومبلغ خمسمائة ألف درهم، ودون ذلك.
وكانت خيول مهنا وأولاده فيها ما بلغ الفرس منها إلى ستين ألف وسبعين ألف درهم وفي حجورتهم ما بلغ ثمانين ألف وتسعين ألفاً ومائة ألف درهم. وبلغ ثمن بنت الكرتا التي أحضرها محمد بن عيسى أخو الأمير مهنا للسلطان، سنة خمس عشرة وسبعمائة مائة ألف درهم وضيعة بثمانين ألف درهم. وأقطع السلطان الناصر عرب آل مهنا وآل فضل بسبب الخيل عدة ضياع بأراضي حماة وحلب، سوى أثمانها.
فكان أحدهم إذا أراد من السلطان شيئاً له قدم عليه في معنى أنه جاء ليدله على فرس عند فلان يقال إلا كذا، ويعظم أمرها عنده، فيكتب السلطان من فوره بطلب تلك الفرس، فيشتد صاحبها ويمتنع من قودها، ثم يقترح ما شاء من الضياع، ولايزال حتى يبلغ غرضه، وصار ذلك معروفاً فيما بينهم. وكان السلطان الناصر أول من اتخذ من ملوك الأتراك ديواناً للإصطبل، عمل له ناظر وشهوداً وكتاباً لضبط أسماء الخيل وشياتها وأوقات ورودها وأسماء أربابها. ومبلغ ثمنها ومعرفة سواسها، وغير ذلك من أحوالها وكان لايزال يتفقد الخيول، فإذا أصيب منها فرس أو كبر سنه بعث به مع أحد الأوجاقية إلى الجشار بعد ما يحمل عليها حصاناً يختاره، ويأمر بضبط تاريخ نزوه، فتوالدت عنده خيول كثيرة حتى أغنته عن جلب ما سواها، ومع ذلك فإنه كان يرغب في الفرس الذي يجلب إليه أكثر مما توالد عنده. فعزت العرب من آل مهنا وآل فضل وآل مرا في أيامه، وكثرت سعادتها واتسعت أحوالها بالأموال والضياع، وحملتهم الدالة حتى طلبوا من السلطان الناصر بلاد أمراء حلب وحماة ودمشق، فأنعم بها عليهم، وعوض الأمراء عنها، حتى صاروا من القوة والكثرة بحيث يخافهم من عداهم من سائر العرب. وشمل الغنى عامتهم، فكانوا إذا رحلوا إلى مشاتيهم أو مصائفهم تكون أموالهم من الذهب والفضة ملء رقاب الجمال، إلى غير ذلك من الإبل والغنم والخيل التي لا تدخل تحت حصر. ولبسوا في أيامه الحرير الأطلس المعدني بالطرز الزوكشي والشاشات المرقومة بالطرز، ولبسوا القرصيات بالطرز الزركشي والداير الباولي والإسكندري المطرز بالذهب وصاغ السلطان لنسائهم الأطواق الذهب المرصع، وعمل لهن الشنابر المشهرة بأكر الذهب، والأساور المرصعة بالجوهر واللؤلؤ، وبعث لهن القماش السكندري والشرب والشمع، وعمل لهن البراقع المزركشة والمسك وأنواع الطيب.
وذلك بعدما كان لبس أمرائهم إلى آخر الأيام المنصورية قلاوون الطراطير الحمر من تحت العمائم الشامية من القطن، وكانت خلعهم إما مسمط أو كنجي.
وأول من لبس منهم طرد وحش مهنا بن عيسى في أيام المنصور لاجين لموده بينهما، فأنكر الأمراء ذلك، فاعتذر لهم لاجين بتقدم صحبته له وأياديه عنده، وأنه أراد أد يكافئه على ذلك. وقدم مهنا وأخوه في أيام تحكم بيبرس وسلار في الدولة، فسألا أن يقطعا ضيعة من بلاد حلب، وينزلا عما بأيديهما عوضاً عنها، فغضب الأمين سلار من ذلك، وقال: يا عرب وصلتم إلى أن تأخذوا ضياع القلاع والأجناد وتعملوها لكم إقطاعا، ونهرهما، فخرجا من عنده على حالة غير مرضية. ولما عدى الظاهر بيبرس الفرات، وكسر المغل، وكان معه مهنا بن مانع بن حذيفة في ألفين من عربه وكانوا يقفون على مخائص الفرات، ويتقدمون بين يدي العسكر خوفاً من غرقهم.
فلما قدم السلطان الظاهر بيبرس إلى حلب سأل مانع أبو مهنا الأمير قلاوون أن يكون لابنه مهنا أرض على سبيل الرزقة، ويقوم عليها أربعة أفراس وعشرة جمال. فلما تحدث قلاوون في ذلك مع السلطان بيبرس لم يجبه بشيء حتى حضر مانع في الخدمة مع الأمراء، فقال له: ويلك يا بدوي نحس وصلت أن تطلب زيادة على إقطاع ولدت، وتبرطل السلطان على ملكه، والله لئن سمعت عنكم شيئاً من هذا لأخرجنكم من البلاد خروجاً نحساً وأكثر من هذا وشبهه، فما زال به قلاوون والأمراء حتى سكن غيظه. فخالف السلطان الناصر سيرة من تقدمه من الملوك في أمر العرب حتى قال له صفرة بن سليمان بن مهنا: لقد أفسدت علينا نسواننا، يريد لكثرة ما غمرهن السلطان بالمال. وأرسل له مرة بن مهنا مع قاصده يقول له: خف الله في المسلمين وبيت المال، فإنك تفرقه على العرب ونسائهم وصغارهم. فكيف يحل لك هذا، ومتى سمعت عن بدوية أنها تلبس غير الثوب من القطن والبرقع المصبوغ وفي يدها سوار من حديد، وإن شمت طيباً فمن زاد بهذا لها؟ فو الله لقد أفسدت حال العرب وحال نسائهم وأطمعتهم في شيء لم يكونوا يطمعون فيه قبلك. ونحو ذلك من العتب.
ومات السلطان الناصر وفي الجشارات ثلاثة آلاف فرس، يعرض في كل سنة عليه فيدفعها ويسلمها للركابين من العربان لرياضتها، ثم ينعم بأكثرها على الأمراء والخاصكية، ويفرح بذلك، ويقول: هذه فلانة بنت فلانة أو فلان ابن فلانة، عمرها كذا وشراء أمها كذا، وشراء أبيها كذا وكان يتقدم إلى الأمراء أن يضمروا الخيول، ويرتب على كل أمير من أمراء الألوف أربعة أرؤس في كل سنة يضمرها، ويسير للأمير أيدغمش أمير أخور أن يضمر خيلاً من غير أن يعلم الأمراء أنها للسلطان بل يشيع أنها له، ويرسلها للسباق مع خيل الأمراء في كل سنة.
وكان عند الأمير قطلوبغا الفخري حصان أدهم سبق خيل مصر كلها ثلاث سنين متوالية. وكان السلطان يرسل إلى مهنا وأولاده أن يحضروا بالخيل السبق عندهم للسباق ثم يركب إلى ميدان القبق ظاهر القاهرة فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر، ويرسل الخيل وعدتها دائماً ما ينيف على مائة وخمسين فرساً، إلى أن بعث، مهنا مع ولديه سليمان وموسى حجرة شهباء على أنها إن سبقت كانت للسلطان، وإن سبقت ردت عليه، بشرط ألا يركبها للسباق إلا بدويها الذي قادهاه فلما ركب السلطان والأمراء، ووقفوا على العادة ومعهم أولاد مهنا بالميدان، وأرسلت الخيل من البركة كما جرت به العادة، ركب البدوي حجرة مهنا الشهباء عريا بغير سرج، وقد لبس قميصاً ولاطية فوق رأسه. فأقبلت الخيل تتبع بعضها بعضاً، وهي قدام الجميع وبعدها على قرب منها حصان لأيدغمش يعرف بهلال. فلما وقف البدوي بالشهباء بين يدي السلطان صاح بصوت ملأ الخافقين. السعادة لك اليوم يا مهنا، لا شقيت وألقى نفسه إلى الأرض من شدة التعب، ثم قدم الحجرة للسلطان.
فكان هذا دأب السلطان الناصر في كل سنة. وترك السلطان الناصر أيضاً بالإسطبلات أربعة آلاف فرس وثمانمائة فرس، ما بين حجورة ومهارة وفحولة وأكاديش، وترك من الهجن الأصائل والنياق خمسة ألاف ونيف، سوى أتباعها. وكان يحب الصيد، فلم يدع أرضاً تعرف بصيد الطير إلا وأقام بها صيادين مقيمين في البرية أوان الصيد.
وجلب طيور الجوارح من الصقورة والشواهين والسناقر والبزاة، حتى كثرت السناقر في أيامه، فصار كل أمير عنده منها عشرة سناقر وأقل وأكثر. وجعل لها بازدارية جوندارية وأقطع عدة منهم الإقطاعات، وأجرى لهم الرواتب من اللحم والعليق والكساوي وغير ذلك.
وترك بعد موته مائة وعشرين سنقراً لخاصه، ولم يعهد مثل هذا لملك قبله بمصر، بل كان في الأيام المنصورية سنقر واحد، فإذا ركب السلطان في الموكب كان بازداره أيضاً راكباً والسنقر على يده.
ولما توجه الأمير حسام الدين طرنطاي لحصار سنقر الأشقر بصهيون سأل أن يكون هذا السنقر في طلبه، ليتجمل به من غير أن يتصيد به ولا يرميه على صيد.
وترك من الصقورة والشواهين ونحوها ما لا ينحصر، وترك ثمانين جوقة كلاب الصيد بكلابزيتها، وكان قد اتخذ لها موضعاً بالجبل.
وعني السلطان الناصر أيضاً بجمع الأعنام، وأقام لها خولة وكان يبعث في كل سنة الأمير آقبغا عبد الواحد في عدة من المماليك السلطانية ليكشف المراحات من قوص إلى الجزيرة، ويأخذ منها ما يتخيره من الأغنام، وكان يجرد أيضاً إلى عيذاب وبلاد النوبة لجلب الأغنام. وعمل السلطان لها حوشاً بقلعة الجبل، وأقام لها خولة نصارى من الأسرى.
وعني أيضاً بالإوز، وأقام لها عدة من الخدم والجواري، وجعل لها جايرا بحوش الغنم. فبلغت عدة الأغنام التي تركها بعد موته نحو الثلاثين ألف رأس، سوى أتباعها. فاقتدى به الأمراء وصارت لهم أغنام عظيمة جداً في عامة أرض مصر قبليها وبحريها.
وكان السلطان الناصر كثير العنايه بأرباب وظائفه وحواشيه من الأمير آخورية والأوجاقية، وغلمان الإصطبل والبزدارية، والفراشين والخولة والطباخين. فكان إذا جاء أوان تفرقة الخيول على الأمراء بعث إلى الأمير بما جرت به عادته مع أمير أخور وأوجاقي وسايس وركبدار، وترقب عودتهم حتى يعرف ما أنعم به ذلك الأمير عليهم، فإن شج الأمير عليهم في عطائه تنكر له وبكته بين الأمراء ووبخه.
وقرر أن يكون أمير أخور الكبير بينهم بقسمين، ومن عداه بقسم واحد. وكان أيضاً إذا بعث إلى أحد من الأمراء طيراً مع أمير شكار أو أحد من البزدارية يحتاج الأمير أن يلبسه خلعة كامله بحياصة ذهب وكفلتاه زركش، فيعود بها ويقبل الأرض بين يدي السلطان، فيستدنيه ويفتش خلعته.
وكانت عادته أن يبعث يوم النحر أغنام الضحايا إلى الأمراء مع الأبقار والنوق، فبعث مرة صحبة بعض الخولة النصارى إلى الأمير بيبغا حارس الطير ثلاثة كباش، فأعطاه بيبغا عشرة دراهم فلوساً، فعاد الخولي إلى السلطان فقال له: وأين خلعتك فطرح الفلوس بين يديه وعرفه بها، فغضب وأمر بعض الخدام أن يسير بالخولي إلى بيبغا، ويقول له: قال لك السلطان: لا فتح الله عليك برزق. ويلك أما كان عندك قباء ترميه على غلامي؟. وخله يلبسه طرد وحش. فلما بلغه الخادم ذلك ندم وأخذ يعتذر، وألبس الخولي قباء طرد وحش.
وكانت حرمته ومهابته قد تجاوزت الحد، حتى إن الأمراء إذا وقفوا بالخدمة لا يجسر أحد منهم أن يتحدث منهم رفيقه بكلمة واحدة، ولا يلتفت نحوه، خوفاً من مراقبة السلطان لهم.
وكان لا يجسر أن يجتمع مع خشداشه في نزهة ولا غيرها، من رمي النشاب ونحوه، فإذا بلغه اجتماع أحد مع أخر أسر ذلك في نفسه، وأمسكه أو نفاه.
وخرب السلطان الناصر عدة مرار مرامي النشاب، ومنع المماليك من الرمي، وأغلق حوانيت البندقانيين وصناع قسي النشاب وقسي البندق، ونادى من عمل قوس بندق شنق. وخرب مرة دكاكينهم، من أجل أن مملوكاً رمي بالبندق فوقعت في عين امرأة قلعتها. ولقي غازان عهلي فرسخ من حمص، ثم كانت له وقعة شقحب المشهورة ودخل بعساكره بلاد سيس، وقرر على أهلها الخراج أربعمائة ألف درهم في السنة كما كان، بعد امتناعهم من حمله. وغزا ملطية وأخذها، وغزا بلاد سيس بعسكر مصر ثلاث مرات بعدما أمر التركمان بالغارة عليها- وخرب بلادهما حتى قرر عليهم الخراج ستمائة ألف درهم في كل سنة، ومنعوا الخراج مرة، فبعث العسكر وأخذ مدينه أياس، وخرب البرج الأطلس وسبعة حصون، وأقطع أراضيها للأمراء والأجناد. وأخذ جزيرة أرواد من الفرنج، وغزا بلاد اليمن وبلاد عانة والحديثة في طلب مهنا. وبعث العساكر في طلب الشريف حميضة نحو الحسا والقطيف وجرد إلى مكة والمدينة العساكر لتمهيدها، ومنع أهلها من حمل السلاح بها.
وعمر قلعة جعبر بعد خرابها، وأجرى نهر حلب إلى المدينة، وعمر دمشق. وولى بلاد الروم نيابة لأرتنا، وخطب له بها وبماردين وبجبال الأكراد وحصن كيفا وبغداد وغيرها من بلاد الشرق، وهو بكرسي ملك مصر. وأتته هدية ملوك المغرب والهند والصين والحبشة والتكرور والنوبة والترك والروم والفرنج.
وكان السلطان الناصر على غاية من الحشمة ورياسة النفس وسياسة الأمور، فلم يضبط عليه أحد أنه أطلق لسانه بكلام فاحش في شدة غضبه ولا في انبساطه وكان يدعو الأمراء وأرباب الولايات وأصحاب الأشغال بأحسن أسمائهم وأجل ألقابهم، وإذا غضب على أحد لا يذكر له ذلك. وكان يقتصد في لباسه، فيلبس كثيراً البعلبكي والنصافي المتوسط، ويعمل حياصته فضة نحو مائة درهم بغير ذهب ولا جوهر، ويركب بالسرج المسقط بالفضة التي زنتها دون المائة درهم، وعباءة فرسه إما تدمري أو شامي ليس فيها حرير.
وكان مفرط الذكاء، يعرف جميع مماليك أبيه وأولادهم بأسمائهم، ويعرف بهم الأمراء، وكذلك مماليكه لا يغيب عنه اسم أحد منهم ولا شغله عنده ولا مبلغ جامكيته.
وكان يعرف أيضاً غلمانه وحاشيته على كثرة عددهم، ولا يفوته معرفة أحد من الكتاب، فإذا أرد أن يولي أحداً مكاناً أو يرتبه في وظيفة استدعى جميع الكتاب إلى بين يديه، واختار منهم واحد أو أكثر من غير أن يرجع فيهم إلى أحد، ثم يقيمه فيما يريد من الوظائف.
وكان فيه تؤدة، فإذا غضب على أحد من أمرائه أو كتابه أسر ذلك في نفسه، وتروى فيه مدة طويلة، وهو ينتظر له ذنباً يأخذه به، كما وقع له في أمر كريم الدين الكبير والأمير أرغون النائب والأمير طغيه وغيرهم، فإنه أقام عدة سنين يريد القبض عليهم وهو يتأنى ولا يعجل، إلى أن عثر لهم على ذنوب توجب له أخذهم بها، حتى لا ينسب إلى ظلم ولا حيف، فإنه كان يعظم عليه أن يذكر عنه أنه ظالم أو جائر أو فيه حيف أو وقع في أيامه خراب أو خلل، ويحرص على حسن القالة فيه وذكره بالجميل.
وكان يستبد بأمور مملكته، ويتفرد بالأحكام، حتى أنه أبطل نيابة السلطنة ليشتغل بأعباء الدولة وحده. وكان يكره أن يقتدي بمن تقدمه من الملوك، ولا يحتمل أن يذكر عنده ملك. وكان يكره شرب الخمر ويعاقب عليه، ويبعد من يشربه من الأمراء عنه.
وبلغ السلطان الناصر من الكرم والجود والأفضال وسعة العطاء غاية تخرج عن الحد، فوهب في يوم واحد ما يزيد على مائة ألف دينار ذهباً، ولم يزل مستمر العطاء لخاصكيته ما بين عشرة ألاف دينار ونحوها.
وسئل النشو: هل أطلق السلطان يوماً ألف ألف درهم؟ قال: نعم كثيراً. وأنعم في يوم على بشتاك بألف ألف درهم في ثمن قرية، وأنعم على موسى بن مهنا بألف ألف درهم في ثمن القريتين. واشترى من الرقيق في مدة أولها شعبان سنة اثنين وثلاثين إلى سنة سبع وثلاثين بأربعمائة ألف دينار وسبعين ألف دينار.
وكان ينعم على تنكز في كل سنة يتوجه إليه بما يزيد على ألف ألف درهم، وأنعم يوماً على قوصون بزردخاناه بكتمر الساقي، وقيمة ما فيها ستمائة ألف دينار، أخذ السلطان من الجميع سرجاً واحداً وسيفاً واحداً.
ولما تزوج قوصون بابنته حمل إليه الأمراء شيئاً كثيراً، ثم بعد ذلك زوج ابنته الأخرى بطغاي تمر وقال: ما نعمل له عرساً، لأن الأمراء يقولون هذه مصاردة بحسن عبارة، ونظر إلى طغاي تمر فرأه وقد تغير. فقال للقاضي تاج الدين إسحاق ناظر الخاص: يا قاضي اعمل لي ورقة بمكارمة الأمراء في عرس قوصون، فعمل ورقة وأحضرها، فقال: كم الجملة؟ فقال: خمسون ألف دينار، فقال: أعط نظيرها من الخزانة لطغاي تمر، وهذا سوى ما دخل مع الزوجة من الجهاز.
وجرى يوماً عند السلطان ذكر عشرين ألف دينار، فقال يلبغا اليحياوي: يا خوند أنا والله عمري ما رأيت عشرين ألف دينار، فلما راح من عنده طلب النشو وقال له. احمل الساعة إلى يلبغا عشرين ألف دينار، وجهزها مع الخازندارية، وجهز خمسة تشاريف أحمر أطلس بكلفات زركش وطرز زركش وحوائص ذهب ليخلع ذلك عليهم.
وكان راتب مطبخه، ورواتب الأمراء والكتاب الذين هم على مطبخه، في كل يوم ستة وثلاثين ألف رطل لحم. وكانت نفقات العمائر الراتب لها في كل يوم ألفا درهم، سوى ما يطرأ.
وبالغ السلطان الناصر أخيراً في مشترى المماليك: فاشترى صرغتمس بخمسة وثمانين ألف درهم، سوى تشريف أستاذه، وغير ما كتب له من المسامحة، وأما العشرة والعشرين والثلاثين فكثير. وغلا الجواهر واللؤلؤ في أيامه. وبذل في أثمان الخيل ما لم يسمع بمثله. وجمع من المال والجواهر واللؤلؤ ما لم يجمعه ملك من ملوك الترك قبله.
وعرفت رغبته في الجواهر، فجلبها إليها التجار من الأقطار، وشغف بالسراري، فحاز منهن كل بديعة الجمال. وجهز إحدى عشرة ابنة له بالجهاز العظيم، فكان أقلهن جهازا بثمانمائة ألف دينار: منها قيمة بشخاناه وداير بيت وما يتعلق به بمائة ألف دينار، وبقية ذلك ما بين جواهر ولألئ وأواني ونحو ذلك. ثم إنه زوجهن من مماليكه: مثل الأمير قوصون، والأمير بشتاك، والأمير ألطنبغا المارديني، والأمير طغاي تمر، والأمير عمر بن النائب وغيرهم، وجهز سراريه وجواريه ومن يحسن بخاطره من النساء كل واحدة بنحو ذلك وبأكثر منه. واستجد النساء في أيامه المقنعة والطرحة بنحو عشرة ألاف دينار، وبما دون ذلك إلى خمسة، ألاف درهم، والفرجيات بمثل ذلك. واستجد أيضاً في أيامه للنساء الخلاخيل الذهب، والأطواق المرصعة بالجواهر الثمينة، والقباقيب الذهب المرصعة بالجواهر، والأوطية المرصعة، والأزر الحرير، فكانت قيمة إزار المرأة من أحاد النساء ألف درهم، عنها نحو الخمسين ديناراً مصرية.
وكان السلطان الناصر يحمل إلى ملوك الشرق من المال ما لا ينحصر، وبذلك كان ينال مقاصده منهم ويبلغ أغراضه فيهم، فإنه كان يعم نواب الملك والخواتين بما يبهرهم به من المصاغ والجواهر والقماش الإسكندري المناسب لهم.
واتفق أنه جهز مرة لأبي سعيد بن خربندا صحبة الأمير أيتمش المحمدي هدية عظيمة جداً، فقال له الفخر ناظر الجيش: قد اغنى الله السلطان عن هؤلاء فإنهم في طاعته عن أن يبعث لهم بهذا المال. فقال له: اسكت يا قاضي فخر الدين والله لو علمت الذي أعلمه ما قلت هذا. اعلم يا قاضي أن المال الذي أسيره إليه ما يجيء قدر ثمن الروايا وكلف السقايين الذين يذهبون معي في البيكار، وأكون قد وفرت نفسي وعسكري.
ولم يعهد في أيام ملك قبله ما عهد في أيامه من مسالمة الأيام له، وعدم حركة الأعداء براً وبحراً وخضوع جميع الملوك له ومهاداتهم إياه وكان يصل إلى قتل من يريد قتله بالفداوية، لكثرة بذله لهم الأموال.
وكان يحب العمارة، فلم يزل من حين قدم من الكرك إلى أن مات مستمر العمارة، فجاء تقدير مصروفه كل يوم مدة هذه السنين ثمانية آلاف درهم. وكان ينفق على العمارة المائة ألف درهم، فإذا رأى فيها ما لا يعحبه هدمها كلها وجددها على ما يختار.
ولم يكن من قبله من الملوك في الإنفاق على العمارة كذلك، بل أراد المنصور قلاوون مرة أن يبني مصطبة عليها رفرف يقيه حر الشمس ليجلس عليها، فكتب له الشجاعي على تقدير مصروفها أربعة ألاف درهم، فتناول الورقة من يد الشجاعي ومزقها وقال: أقعد في مقعد بأربعة ألاف انصبوا لي صيواناً إذا نزلت، ولا أخرج من بيت المال لمثل هذا شيئاً. وكذلك كان الظاهر بيبرس ومن قبله لا يستهون بالمال، وإنما يدخرونه صيانة وخوفاً، ولم يعرف لآحد منهم أنه أنعم بألف دينار جملة واحدة.
وراك السلطان الناصر أرض مصر والشام، وأبطل عدة مظالم من المكوس والضمانات: مثل ساحل الغلة، وكان عليه ستمائة جندي، ما منهم إلا من له في كل سنة ما بين ثمانية ألاف درهم إلى ستة ألاف درهم، سوى ما عليه للأمراء، ومثل الحقوق التي كانت على الأسربة إذا كسحت، وعليها أيضاً عدة أجناد فرتب لهم في كل سنة جملة لكل منهم، ومثل جهات ابن البطوني، وكان هذا الرجل يأخذ على رد العبيد والجواري الآبقين ضريبة، ويقيم من تحت يده رجالاً على الطرقات لرد الهاربين، ويقوم للديوان في كل سنة بمال. وأبطل السلطان غير ذلك من المكوس، كما تقدم عند عمل الروك.
وكان السلطان الناصر متسع الحال. بلغ راتبه من اللحم في كل يوم لمطبخه ومرتب مماليكه ستة وثلاثين ألف رطل لحم.
واستجد في أيامه عمائر كثيرة: منها حفر خليج الإسكندية من بحر فوة في مدة أربعين يوماً، عمل فيه فوق المائة ألف رجل من أهل النواحي، فاستجد عليه عدة سواقي، وبساتين في أراضي كانت سباخا، فصارت مزارع قصب السكر والسمسم، وعمرت هناك الناصرية، ونقل إليها مقداد بن شماس بأولاده وعدتهم مائة ولد ذكر، واستمر الماء طول السنة بخليج الإسكندرية. وأنشأ الميدان تحت القلعة، وأجرى له المياه، وغرس فيه النخل والأشجار، ولعب فيه بالكرة في كل يوم ثلاثاء مع الأمراء والخاصكية، وعمر فوقه القصر الأبلق. وأخرب البرج الذي عمره أخوه الأشرف خليل على الإصطبل، وجعل فوقه رفرفا، وترك أصله من أسفله، وعمر بجانبه برجاً نقل إليه المماليك. وغير باب النحاس بالقلعه، ووسع دهليزه. وعمر في الساحة قدام الإيوان طباقاً للأمراء والخاصكية، وغير الإيوان مرتين، وفي المرة الثالثة أقره على ما هو عليه الآن، وحمل إليه العمد الكبار من بلاد الصعيد، فجاء من أعظم المباني الملوكية. وعمر بالقلعة دوراً للأمراء الذين زوجهم ببناته، وأجرى إليها المياه، وعمل بها الحمامات، وزاد في باب القلة من القلعة باباً ثانياً. وعمر حارة مختص، وعمر الجامع بالقلعة والقاعات السبع التي تشرف على الميدان وباب القرافة لأجل سكنى سراريه. وعمر المطبخ، وجعل عمائره كلها بالحجارة خوفاً من الحريق. وعزم أن يغير باب القلعة المعروف بالمدرج، ويعمل له دركاه، فمات قبل ذلك. وعمل في القلعة حوش الغنم وحوش البقر وحوش المعزى وجاير الأوز، وغير ذلك، فأوسع فيها نحو خمسين فداناً. وعمر الخانكاه بناحية سرياقوس ورتب بها مائة صوفي لكل منهم الخبز واللحم والطعام والحلوى وسائر ما يحتاج إليه. وعمر القصور بالقرب منها، وعمل لها بستاناً حمل إليها الأشجار من دمشق وغيرها، فصار به عامة فواكه الشام. وحفر الخليج الناصري خارج القاهرة حتى أوصله إلى سرياقوس، فعمر على هذا الخليج عدة قناطر: منها قنطرة بفمه عند الميدان أنشأها الفخر ناظر الجيش، وقنطرة قدادار والي القاهرة، وغير ذلك، فصار بجانبي الخليج عدة بساتين، وعمرت به أرض الطبالة بعد خرابها من أيام العادل كتبغا. وعمرت في أيام السلطان الناصر جزيرة الفيل وناحية بولاق بعدما كانت رمالاً ترمي بها المماليك النشاب، وتلعب الأمراء فيها بالكرة، فصارت كلها دوراً وقصوراً وجوامع وأسواق وبساتين.
وبلغت البساتين بجزيرة الفيل زيادة على مائة وخمسين بستاناً، بعدما كانت نحو العشرين بستاناً. واتصلت العمارة على ساحل النيل من منية الشيرج إلى جامع الخطيري، إلى حكر ابن الأثير وزريبة قوصون، إلى منشأة الكتبة ومنشأه المهراني، إلى بركة الحبش، حتى كان الإنسان يتعجب لذلك، فإنه كان يعهد هذا كله تلال رمل وحلفاء، فصار لا يرى فيه قدر ذراع إلا وفيه بناء.
وعمرت في أيامه أيضاً القطعة التي فيما بين قبة الإمام الشافعي إلى باب القرافة، بعدما كانت فضاء لسباق خيل الأمراء والأجناد والخدام، فتحصل به اجتماعات جليلة للتفرج عليهم، إلى أن أنشأ السلطان تربة الأمير بيبغا التركماني.
فعمر ذلك كله ترباً وخوانك، حتى صارت العمائر متصلة من باب القرافة إلى بركة الحبش، لا يوجد بها قدر ذراع بغير عمارة، وتنافس الأمراء في ذلك حتى بلغوا في عمارته مبلغاً عظيماً إلى الغاية وعمر في أيامه أيضاً الصحراء التي فيما بين القلعة وخارج باب المحروق إلى قبة النصر وكان هناك ميدان القبق من عهد الظاهر بيبرس، برسم ركوب السلطان وعمل الموكب به، وبرسم سباق الخيل.
وأول من عمر فيه الأمراء قراسنقر تربة، وعمل لها حوض ماء للسبيل يعلو مسجد، ثم اقتدى به الأمراء والأجناد وغيرهم حتى امتلأ الميدان من كثيرة العمائر.
وعمر السلطان لمماليكه عدة قصور: منها قصر الأمير طقتمر الدمشقي بحدرة البقر، وبلغ مصروفه ثمانمائة ألف درهم، فلما مات طقتمر أنعم به السلطان على الأمير طشتمر حمص أخضر، فزاد فيه.
ومنها قصر الأمير بكتمر الساقي على بركة الفيل، فعمل أساسه أربعين ذراعاً، وارتفاعه عن الأساس مثلها، فزاد مصروفه على ألف ألف درهم. ومنها الكبش حيث كانت عمارة الملك الصالح نجم الدين أيوب فعمله السلطان سبع قاعات برسم نزول بناته وسراريه فيها للتفرج على ركوب السلطان إلى الميدان الكبير، ولم ينحصر ما أنفق فيها لكثرته. ومنها إصطبل الأمير قوصون بسوق الخيل تحت القلعة، حيث كان إصطبل الأمير سنجر البشمقدار، وإصطبل سنقر الطويل. ومنها قصر بهادر الجوباني، بجوار زاوية البرهان الصائغ بالجسر الأعظم تجاه الكبش. ومنها قصر قطلوبغا الفخري، وقصر ألطنبغا المارديني وقصر يلبغا اليحياوي وهو أجل ما عمره من القصور، انصرف على أساسه خاصة عن ثمن جير وحجر وأجرة مائة وثلاثين ألف درهم، وعمل نزوله في الأرص ثلاثين ذراعاً، واحتيج فيه إلى زنة عشرة آلاف درهم لازورد لدهان سقوفه، ثمنها مائة ألف درهم.
وعمر الأمراء في أيام السلطان الناصر عدة دور: منها دار الأمير أيدغمش أمير آخور، ودار آقبغا، ودار طقزدمر، ودار بشتاك على النيل وهي تشتمل على ربع كبير فوق زريبة بجوار جامع طيبرس، وقصر بشتاك بالقاهرة، وقد ذكرت هذه القصور والدور في كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والأمطار ذكراً مستوعباً لأخبارها.
وكانت للسلطان عناية كبيرة ببلاد الجيزة، وعمل على كل بلد بها جسراً أو قنطرة وكانت أكثر بلادها تشرق لعلوها، فعمل جسر أم دينار في ارتفاع اثنتي عشرة قصبة، أقام العمل فيه مدة شهرين، فحبس الماء حتى رويت تلك الأراضي كلها، وعم النفع بها. وقوي بسبب هذا الجسر الماء حتى حفر بحراً يتصل بالجيزة وخرج في أراضيها عدة مواضع زرعت بعدما كانت شاسعة، أخذ منها قوصون وبشتاك وغيرهما عدة أراضي عمروها ووقفوها، واستجد السلطان على بقيتها ثلاثمائة جندي.
واستجدت في أيامه عدة أراضي بنواحي الشرقية وفوة وشباس، أقطعت لعدة أجناد وعمل أيضاً جسر شيبين، فزاد بسببه خراج الشرقية. وعمل جسراً خارج القاهرة حتى رد النيل على منية الشيرج وغيرها، وعمرت بسببه بساتين جزيرة الفيل، وكثر عددها. وأحكم السلطان عامة أرض مصر قبليها وبحريها بالترع والجسور، حتى أتقن أمرها، وكان يوكب إليها برسم الصيد في كل قليل، ويتفقد أحوالها، وينظر في جسورها وتراعها وقناطرها بنفسه، بحيث أنه لم يدع في أيامه موضعاً منها حتى عمل فيه ما يحتاج إليه. وكان له سعد في جميع أعماله، فكان يقترح المنافع من قبله بعد أن كان يزهده فيما يأمر به حذاق المهندسين، ويقول بعضهم يا خوند الدين جاءوا من قبلنا لو علموا أن هذا يصح لفعلوه، فلا يلتفت إلى قولهم، ويفعل ما بدا له من مصالح البلاد، فتأتيه أغراضه على ما يحب ويختار، فزاد في أيامه خراج مصر زيادة هائلة في سائر الأقاليم.
وكان إذا سممع بشراقي بلد أو قرية من القرى أهمه ذلك، وسأل المقطع بها عن أحوال القرية المذكورة غير مرة، بل كلما وقع بصره عليه، ولا يزال يفحص عن ذلك حتى يتوصل إلى ريها بكل ما تصل قدرته إليه. كل ذلك وصاحبها لا يسأله في شيء من أمرها، فيكلمه بعض الأمراء في ذلك فيقول: هذه قريتي، وأنا الملزوم بها والمسؤل عنها، فكان هذا دأبه، وكان يفرح إذا سأله بعض الأجناد في عمل مصلحة بلده بسبب عمل جسر أو تقاوي أو غير ذلك، وينبل ذلك الرجل في عينه، ويفعل له ما طلبه من غير توقف ولا ملل في إخراج المال، فإن كلمه أحد في ذلك فيقول: فلم نجمع المال في بيت المسلمين إلا لهذا المعنى وغيره، فهذه كانت عوائده.
وكذلك فعل بالبلاد الشامية، حتى إن مدينة غزة هو الذي مصرها وجعلها على هذه الهيئة، وكانت قبل كآحاد قرى البلاد الشامية، وجعل له نائباً، وسمي بملك الأمراء، ولم تكن قبل ذلك إلا ضيعة من ضياع الرملة، ومثلها فكثير من قرى الشام وحلب والساحل يطول الشرح في ذكر ذلك.
وأنشأ السلطان الناصر الميدان الكبير على النيل وخرب ميدان اللوق الذي أنشأه الظاهر بيبرس، وعمله بستاناً حملت إليه الأشجار من دمشق وغيرها، فكانت فواكه تحمل إلى الشراب خاناه السلطانية. ثم أنعم به على الأمير قوصون، فبنى تجاهه على الزريبة المعروفة بزريبة قوصون، ووقفهما. واقتدى به الأمراء في العمارة، فأخذ قوصون بستان بهادر رأس نوبة ومساحته خمسة عشر فداناً وحكر للناس، فبنوه دوراً، وعرف بحكر قوصون.
وحكر السلطان حول البركة الناصرية أراضي البستان، فعمره الناس وسكنوا فيه. وحكر الأمير طقزدمر بجوار الخليج بستاناً مساحته ثلاثون فدانا، وبني له قنطرة عرفت به وعمل هناك حماماً وحوانيت، فصار حكراً عظيماً للمساكين. وحكر الأمير آقبغا عبد الواحد بستاناً بجوار بركة الفيل، فعمر عمارة محميرة بعدما كان مقطع طريق، فصار قدر مدينة كبيرة، وأخذ بقية الأمراء جميع ما كان من البساتين والجنينات ظاهر القاهرة وحكروها. وحكرت الدادة حدق- وهي المعروفة باسم ست مسكة القهرمانة- حكرين عرفاً بها، فجاءا من أحسن الأحكار، وأنشات لكل واحد منهما جامعاً تقام به الجمعة. فأنافت الأحكار التي استجدت في أيامه على ستين حكراً، حتى لم يوجد موضع بحكر، واتصلت العمارات من خارج القاهرة إلى جامع ابن طولون والمشاهد، وقد ذكرنا أيضاً هذه الأحكار في كتاب المواعظ والاعتبار ذكراً شافياً.
وفي أيامه عمر الأمير قوصون بالقاهرة وكالة حيث كانت دار تعويل البوغاني.
وعمر الأمير طشتمر حمص أخضر ربعاً بجوار حدرة البقر، وهو الذي عمر قيسارية الحريريين بجوار الوراقين من القاهرة.
وعمر الأمير بكتمر الساقي. بمدينة مصر ربعين وحوانيت على النيل ودار وكالة ومطابخ سكر. وعمر الأمير طقزدمر دار التفاح خارج باب زويلة، والربع الذي فوقه. وتجددت عدة جوامع في أيامه أنافت على ثلاثين جامعاً، منها الجامع الناصري بقلعة الجبل جدده السلطان الناصر وأوسعه، والجامع الجديد الناصري ظاهر من على النيل، وجامع المشهد النفيسي، وجامع الأمير كراي المنصوري بآخر الحسينية، وجامع الأمير طيبرس نقيب الجيش على النيل بجوار خانكاته،- وهو الذي عمر أيضاً مدرسة بجوار الجامع الأزهر بالقاهرة، وجامع الأمير بدر الدين محمد بن التركماني بالقرب من باب البحر وجامع الفخر ناظر الجيش على النيل فيما بين بولاق وجزيرة الفيل، وهو الذي عمر جامعاً آخر خلف خص الكيالة ببولاق، وجامعاً ثالثاً بالروضة، وجامع كريم الدين خلف الميدان، وجامع شرف الدين الجاكي بسويقة الريش، وجامع أمير حسين بالحكر،- وقد بني له قنطرة على الخليج- وجامع الأمير قيدان الرومي بقناطر الوز، وجامع دولت شاه مملوك العلائى بكوم الريش، وجامع الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك بطرف الحسينية، وجامع ناصر الدين الحراني الشرابيشي بالقرافة، وجامع الأمير آقسنقر شاد العمائر قريباً من الميدان، وجامعاً خارج باب القرافة عمره جماعة من العجم، وجامع النوبة بباب البرقية- عمره مغلطاي أخو الأمير ألماس، وجامع بنت الملك الظاهر بيبرس بالجزيرة المستجدة وعمر ما حوله أملاكاً كثيرة-، وجامع الأمير ألماس بالقرب من حوض ابن هنس، وجامع الأمير قوصون خارج القاهرة، وجامعه خارج باب القرافة، وجامع الأمير عز الدين أيدمر الخطيري على النيل ببولاق، وجامع أخي صاروجا بشون القصب، وجامع الحاج آل ملك بالحسينية، وجامع الأمير بشتاك على بركة الفيل تجاه خانكاته، وجامع ست حدق فيما بين قنطرة السد وقناطر السباع، وجامع ست مسكة قريباً من قنطرة آقسنقر، وجامع الأمير ألطبغا المارديني خارج باب زويلة، وجامع مظفر الدين بن الفلك بسويقة الجميزة من الحسينية وجامع جوهر السحرتي قريباً من باب الشعرية، وجامع فتح الدين محمد بن عبد الظاهر بالقرافة.
واستجد بدمشق في أيام السلطان الناصر أيضاً جامع كريم الدين وجامع شمس الدين غبريال، وجامع الأفرم، وجامع تنكز، وجامع يلبغا.
وجددت الخطب في أيامه بعدة مواضع: فجدد نائب الكرك خطبة بالمدرسة الصالحية، وجدد طقزدمر خطة بالمعزية بمصر. وتجددت خطة بزاوية فخر الدين بن جوشن خارج باب النصر، وجدد نجم الدين أبو بكر بن غازي دلال المماليك خطبة بمسجد فيما بين باب البحر وبولاق، وجددت خطة بجامع محمود بالقرافة بعدما كان تربة. وأخر ما عمره السلطان السواقي بالرصد، فمات ولم يكمل عملها، إلا أنه في أخر أيامه أقام النشو، فأفرط في الظلم.
وشغف السلطان الناصر أيضاً بحب الجواري، فكتب إلى أعمال مصر ببيع الجواري المولدات وحملهن إليه، وأخذهن حتى من المغنيات، فزادت عدتهن عنده على ألف ومائتي وصيفة. وكان يكره ممالك أبيه وأخيه، ومازال بهم حتى فنوا في أيامه. وكان لا يمكن مماليكه بالاجتماع بالفقهاء، وتعنت على أجناد الحلقة وعرضهم وقطع منهم جماعة، فمات عقيب ذلك. ورسم بعد موته بغلق حوانيت بين القصرين، وطردت الناس بأجعهم من هناك. وحمل في محفة، وأخرج من القلعة، ومروا به من وراء السور إلى باب النصر، ومعه من الأمراء بشتاك وملكتمر الحجازي وأيدغمش وعدة من الخاصكية.
ثم شقوا به من باب النصر إلى المدرسة المنصورية، وقدامه بعض الحراس تضيء عليه بمسرجة زيت حار، ثم لحقه فانوس فشيعه إلى المدرسة المنصورية. وحمل إلى القبة بها وغسل وحنط، وكفن من المارستان، وقد اجتمع الفقهاء والقراء، ثم دفن على أبيه.
وترك السلطان الناصر من الأولاد محمداً وابراهيم، وعليا، وأحمد، وأبا بكر، وكجك، ويوسف، وشعبان، ورمضان، وإسماعيل، وحاجي وحسيناً، وحسناً وصالحاً، وسبع بنات، فولي السلطة من أولاده ثمانية: وهم أبو بكر، وكجك، وأحمد، وإسماعيل، وشعبان، وحاجي، وصالح وحسن.
وكانت نوابه بديار مصر كتبغا وسلار، وبيبرس الدوادار، وبكتمر الجوكندار وأرغون الدوادار، ولم يستنب بعد أرغون أحد.
وكانت وزراؤه سنجر الشجاعي، وتاج الدين محمد بن حنا، وفخر الدين عمر بن الخليلي، وسنقر الأعسر، وعز الدين أيبك البغدادي، ومحمد بن الشيخي، وأيبك الأشقر- وسمي المدبر، وسعد الدين محمد بن عطايا، وضياء الدين أبو بكر بن عبد الله النشائي، وبدر الدين محمد بن التركماني وأمين الدين عبد الله بن الغنام، وبكتمر الحاجب، ومغلطاي الجمالي. ولم يستوزر بعد الجمالي أحداً.
وكانت قضاته تقي الدين محمد بن دقيق العيد وبدر الدين محمد بن جماعة وجمال الدين سليمان الزرعي وجلال الدين محمد بن القزويني وعز الدين عيد العزيز بن جماعة.
وكان كتاب سره شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله، وعلاء الدين علي بن الأثير، ومحي الدين يحيى بن فضل الله، وعلاء الدين علي بن فصل الله.
كان دواداريته عز الدين أيدمر، وأرغون، وأرسلان، وألجاي، ويوسف بن الأسعد، وبغا، وطاجار.
وكان نظار جيشه بهاء الدين عبد الله بن أحمد الحلي، والفخر محمد بن فضل الله القبطي، وقطب الدين مرسي بن شيخ السلامية، وشمس الدين موسى بن التاج إسحاق، والمكين إبراهيم بن قروينة، وجمال الكفاة إبراهيم. تم ذلك.

.السلطان أبو بكر بن الملك الناصر:

السلطان الملك المنصور أبو بكر بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون جلس على تخت السلطنة بالإيوان من قلعة الجبل بعهد أبيه له صبيحة توفي والده، من يوم الخميس حادي عشرى ذي الحجة، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. ولقبه الأمراء الأكابر بالملك المنصور، وجلسوا حوله، واتفقوا على إقامة الأمير سيف الدين طقزدمر الحموي- زوج أمه- نائب السلطة بديار مصر، وأن يكون الأمير قوصون مدبر الدولة ورأس المشورة، ويشاركه في الرأي الأمير بشتاك.
ورسم بتجهيز التشاريف والخلع، وعين الأمير قطلو بغا الفخري لتعزية نواب الشام بالسلطان الناصر محمد، والبشارة بسلطنة ابنه وتحليفهم. ويكون صحبته تقاليدهم فتوجه من يومه.
وفيه نودي بالقاهرة ومصر أن يتعامل الناس بالفضة والذهب بسعر الله، فسر الناس ذلك، فإنهم كانوا منعوا من المعاملة بالفضة، وألا يكون معاملتهم إلا بالذهب.
وفيه أفرج عن بركة الحبش وقف الأشراف، وكان النشو قد أخذها منهم، وصار ينفق فيهم من بيت المال.
وفيه كتب إلى ولاة الأعمال برفع المظالم، وألا يرمي على بلاد الأجناد شعير ولا تبن.
وفي يوم الخميس ثامن عاشريه: أنعم على عشرة بإمريات طبلخاناة.
وفي يوم السبت سلخه: جمع القضاة بجامع القلعة للنظر في أمر الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد بن أبي الربيع سليمان وإعادته إلى الخلافة، وحضر معهم الأمير طاجار الدوادار وغيره.
فاتفقوا على إعادته، لعهد أبيه إليه بالخلافة،. بمقتضي مكتوب ثابت على قاضي قوص.
وفيه، فرقت التشاريف والخلع على الأمراء. ليلبسوها في يوم الخدمة من العام المقبل. وفيه أقيم الأمير قرصون في تدبير أمور الدولة.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

الأمير سيف الدين الحاج قطز الظاهري، أحد أمراء الطبلخاناة، وقد أناف على مائة سنة وهو أخر من بقي من المماليك الظاهرية بيبرس وكان مشكوراً.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بدر الدين حنكلي بن البابا، في يوم الرابع والعشرين من رجب. وكان فقيهاً أديباً شاعراً جواداً.
وتوفي الصاحب أمين الدين أمين الملك أبو سعيد عبد الله بن تاج الرياسة بن الغنام تحت العقوبة مخنوقا، يوم الجمعة رابع جمادى الأولى. ووزر الصاحب أمين الدين ثلاث مرات، وباشر نظر الدولة واستيفاء الصحبة والدولة، وخدم من الأيام الأشرفية فولي. بمصر ودمشق وطرابلس، وحسن إسلامه وكان رضي الخلق.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاي العزي نائب أياس والفتوحات الأندلسية بها وكان مشكور السيرة.
ومات طوغان الشمسي سنقر الطويل وإلى الأشمونين وشاد الدواوين بمصر والشام، وهو منفي بالشام وكان ظالماً غشوماً مذموم السيرة.
ومات الأمير آنوك ابن السلطان الناصر محمد، في يوم الجمعة سابع ربيع الأول، فاشتد حزن والده السلطان عليه.
وتوفي الشيخ المعتقد عز الدين عبد المؤمن بن قطب الدين أبي طالب عبد الرحمن بن محمد بن الكمالي أبي القاسم عمر بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن المعروف بابن العجمي الحلبي الشافعي بمصر. تزهد بعد الرياسة والاشتغال بالعلم وكتابة الخط المنسوب، وحج ماشياً من دمشق، وجاور بمكة مراراً، وقدم مصر سنة اثنتين وثلاثين، وأقام بها حتى مات. وكان لا يقبل لأحد شيئاً، ويقيم حاله من وقف أبيه بحلب، وتزيا بزي الصوفية، وكان فيه مروءة، وله مكارم وصدقات، وله شعر جيد.
وتوفي افتخار الدين جابر بن محمد بن محمد الخوارزمي الحنفي شيخ المدرسة الجاولية بالكبش، في يوم الخميس السادس عشر المحرم. وكان بارعاً في النحو شاعراً.
وتوفي عز الدين عبد الرحيم بن نور الدين علي بن الحسن بن محمد بن عبد العزيز ابن محمد بن الفرات، أحد نواب القضاة الحنفية، في ليلة الجمعة ثاني عشرى ذي الحجة.
وتوفي أوحد الدين بالقدس في رابع عشرى شعبان.
ومات الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب حلب، ببلاد المراغة، وقد أقطعه إياها ابو سعيد بن خربندا. وكان موته بمرض الإسهال وقد أعيا الملك الناصر قتله، وبعث إليه كثيراً من الفداوية، فصانه الله منهم، بحيث قتل من الفداوية بسببه نحو مائة وأربعة وعشرين فداوياً. ولما بلغ السلطان الناصر محمد موته قال: وا لله ما كنت أشتهي موته إلا من تحت سيفي، وأكون قد قدرت عليه وبلغت مقصودي ولكن الأجل حصين.
وكانت له مع الفداوية أخبار طويلة: منها أن السلطان الناصر محمد أعطى يونس التاجر مالاً كثيراً، وبعثه إلى توريز ليتخذ له بها أصحاباً يثق بهم حتى يرد إليه الفداوية فيأووا عنده، وعرف يونس بمقاصده. ثم إن السلطان تلطف مع صاحب مصياف، وبذل له مالاً كثيراً حتى ندب له من الفداوية طائفة. فبعثهم السلطان إلى يونس فأواهم وأعلمهم بالغرض، فانتظروا وقتاً يصلح للوثوب مدة أيام إلى أن ركب النوين الكبير جوبان يريد مدينة توريز، وركب آقوش الأفرم وقراسنقر إلى جانبيه. فخرج اثنان من الفداوية، أحدهما للأفرم والآخر لقراسنقر، فبدر أحدهما وضرب آقوش الأفرم، فاتقى الضربة بيده، وكان عليه قرضية، فانشق كمه وجرحت يده، وجبن الآخر عن قراسنقر، لقتل الفدواي. ووقع الحذر، وكبست الفنادق والخانات بتوريز، وقبض على يونس، فقام الوزير ناصر الدين خليفة بن خواجا علي شاه معه حتى تخلص من القتل. ولم يصب قراسنقر بسوء، وعولج الأفرم حتى برئ من جراحته واحترسا على أنفسهما ومن غرائب الاتفاق فيما سبق أنه كان لقراسنقر فراش من العليقة، وله معرفة بأهل مصياف، فتتبع نواحي توريز حتى ظفر بفداوي رسله السلطان الناصر محصد لقتل قراسنقر، فإذا هو أخوه، فاستماله وقربه من قراسنقر. فأعطاه قراسنقر مائة دينار ورتب له في كل شهر ثلاثمائة درهم، وخدم عنده فراشاً رفيقاً لأخيه، وزاد في الإنعام عليه حتى بلغت عطيته له خمسمائة دينار. فأعلم هذ الفداوي قراسنق بما ندب إليه من قتله، وضمن له أنه يعرفه بجميع من يرد من الفداوية. فسر قراسنقر بذلك وأعلم جوبان والوزير ناصر الدين خليفة، فكبسوا على جماعة ممن دلهم عليهم، فظفروا، بواحد، وفر بعضهم، وقتل بعضهم نفسه، وجيء بالفداوي المقبوض عليه، فعوقب حتى مات ولم يعترف بشيء.
واشتد الأمر بتوريز وغيرها على الغرباء، وقصاد السلطان تطالعه بذلك في كل وقت، إلى أن كتبوا إليه نائب بغداد بلغه عن تاجر أنه اشترى مملوكين للسلطان بمائة وعشرين ألف درهم، فأحضر نائب بغداد التاجر وألزمه بإحضارهما، فافتدى بأربعمائة دينار حتى تركه، وأخرجه من بغداد. فبعث التاجر بطائفة من الفداوية لقتله، وقتل قراسنقر، فتفرقوا بالأردو وتوريز وبغداد، وأقاموا في الانتظار لانتهاز الفرصة. فبينا نائب بغداد يوماً وقد مر في الشارع، إذا وثب عليه أحد الفداوية وصاح. ياللملك الناصر، وضربه بالخنجر في صدره، ومر يعدو فلم يقدر عليه. وعاد الفداوي إلى مصياف، وكتب إلى السلطان الناصر محمد بما جرى وقتل نائب بغداد. فلما بلغ ذلك قراسنقر وجوبان اشتد حذرهما، وألزم قراسنقر فراشه وأخاه الفداوي حتى دلاه على أربعة من الفداوية، فقبض عليهم، فاعترف أحدهم، وحكى له المنبر بنصه فقتلوا وشهروا. وأقام رجال جوبان مدة في طلب الفداوية، فلم يدخل منهم أحد إلا ظفر به. فلما قدم المجد السلامي إلى القاهرة وصحب كريم الدين الكبير، واتصل بالسلطان، أقامه السلطان عيناً له ببلاد الشرق، وبعثه بالهدايا والتحف. فصحب المجد السلامي جوبان والوزير، ولزمهما، وطالع السلطان بالأحوال. ثم بعث السلطان إليه بعدة من الفداوية، وكان من لطف الله به أنه يوم قدم المجد السلامي توريز قبض بها على ثلاثة من أربعة من الفداوية، وفر الرابع الذي معه كتاب السلطان إليه. فعوقب الثلاثة حتى ماتوا، ولم يعترفوا بشيء ووصل الذي فر إلى مصياف وكتب إلى السلطان بما جرى. فمازال السلامي يقرر الصلح بين الوزير خواجاً علي شاه وجوبان وبين السلطان إلى أن تم، وشرطوا فيه ألا يدخل إليهم فداوي.
ثم حدث أنه بينما قراسنقر في عدة من أمراء الساحل يتصيد إذ وثب عليه من خلفه فداوي وضربه، فوقعت الضربة في خاصرة الفرس، ألقى قراسنقر نفسه إلى الأرض فسلم، وقتل أصحابه الفداوي. ثم لما توجه الأمير أيتمش بن عبدالله المحمدي الناصري في المرة الثانية إلى أبي سعيد بعث السلطان الناصر في أثره فداويين قبض على أحدهما، وقتل الأخر نفسه، فلم يعترف المقبوض عليه بشيء حتى مات قتلاً بحضور أيتمش. وعتب جوبان على أيتمش بسبب ذلك، وأنه وقع الصلح على ألا يدخل أحد من هؤلاء إلينا، فاعتذر أيتمش بأن هؤلاء إلينا كانوا فداوية فقد كانوا في البلاد من قبل تقرير الصلح، وضمن أن السلطان لا يعود إلى إرسال أحد منهم فمشى ذلك على جوبان، وأعيد أيتمش إلى مصر.
فلما عاد المجد السلامي أيضاً بعث السلطان إلى مصياف بالإنكار على الفداوية في تأخر قضاء شغله، فأرسلوا إليه رجلاً منهم ليقوم بما يؤمر به، فخلا به السلطان وعرفه مقاصده، وأنزله عند كريم الدين بحيث لا يراه أحد، فكان راتبه في كل يوم خروفاً يأكله كله في كشك من أول النهار، ثم يأكل في وسط النهار دجاجاً أو أوزاً أو لحماً مشوياً، ثم يتعشى بثلاثة ألوان من الطعام، ويشرب في كل يوم ستين رطلاً من الخمر. فأقام الرجل الفداوي على ذلك أربعة وثلاثين يوماً، ثم سافر لقصده. وتسلم القاصد الذي يدله على الغريم السكين ليعطها للرجل الفداوي، وقد ختمت. وتوجه السلامي أيضاً بهدية جليلة، فوصل الجميع إلى البلاد. وخفي أمر الفداوي حتى كان يوم عيد الفطر، ودخل الناس يهنؤن أبا سعيد وجوبان، وفيهم قراسنقر، ثم انصرفوا بعد أكلهم إلى الوزير خواجا علي شاه، وأكلوا طعامه. ثم بعث السلامي إلى الفداوي فأحضره، وأوقفه بطريق قراسنقر، ودخل رفيقه حتى ينظر وقت فراغ قراسنقر من الطعام ليعرف به الفداوي. فاتفق أن قراسنقر قام ومشى إلى أثنا الدهاليز، وقد سبقه القاصد وعرف به الفداوي، وأعطاه السكين ووصف له شكله وزي ثيابه، وقال له هو أول من يركب. فعندما وضع قراسنقر رجله في الركاب استدعاه الوزير، فعاد، وقد قام دمرداش نائب الروم من المجلس، وكان فيه شبه من قراسنقر وخلعته التي عليه حمراء مثل خلعة قراسنقر فعندما ركب دمرداش وتوسط الطريق مر بالفداوي، فظنه قراسنقر، فألقى نفسه من سطح كان فوقه، فصار على كفل الفرس وصاح بسعادة السلطان الملك الناصر محمد، وضربه في رقبته ألقاه عن فرسه قتيلاً. وقام الفداوي يعدو، فأدركه القوم وأحضروه إلى جوبان، فاتهم بأنه كان مع السلامي، فلولا لطف الله به وعناية الوزير لقتل السلامي شر قتلة وقتل الفداوي بعد ما عوقب أشد العقوبة، ولم يعترف بشيء.
ومما حدث كذلك أنه بينا قراسنقر في بعض الأعياد، وقد خرج مع أمراء المغل من حضرة أبي سعيد إلى عند جوبان، إذ وثب عليه فداوي، فألقى قراسنقر نفسه إلى الأرض فوقع الفداوي عليه وضربه بالسكين فأخطأه، ووقعت السكين في الأرض. فقطع الفداوي فوق صدر قراسنقر قطعاً، وأقيم قراسنقر وقد خرب شاشه، وطاحت الكلفتاه عن رأسه، وكان عقله أن يذهب.
وكان قراسنقر أحد مماليك المنصور قلاوون، عمله كوكندار، ثم ترقى حتى ولي نيابة حلب، ونيابة دمشق. وكان كبير القدر، بشوش الوجه، صاحب رأي وتدبير ومعرفة، وبلغت عدة مماليكه ستمائة مملوك. وكان كثير العطاء لا يستكثر على أحد شيئاً، وكان مهاباً كثير المال، وترك ولدين هما أمير علي، وأمير فرج، وإليه تنسب المدرسة القراسنقرية بخط رحبة باب العيد من القاهرة، ودار قراسنقر بحارة بها الدين.
ومات الأمير تنكز نائب الشام، يوم الثلاثاء نصف المحرم.